
هنالك مفردات أنهكت من كثرة الإستخدام غير المنتج وأصبحت فارغة خاوية، لا حس فيها ولا ركز، مجرد سراب يحسبه الظمآن ماءًا، ولعل الناس يذكرون ( *المؤتمر الدستوري* ) الذي أنفق عليه المرحوم الصادق المهدي عمرًا بحاله ولم يصل إليه، وكذلك مصطلح ( *الحوار السوداني* ،، *السوداني* ) أو الفلاني، الفلاني، برغم الظروف غير المؤاتية الآن في حالة الحرب هذه التي قسّمت المكونات السياسية في السودان إلى أزواج ثلاثة:
أصحاب السبق بالخيرات المبادرون بلا تحفّظ في دعم الجيش والوقوف إلى صفّه مهما كانت النتائج والمآلات التي لم تكن في بداية الحرب معروفة إذا تأرجحت كفّات المعادلة العسكرية ولم تستقر قراءتها بعد، وهذا دأب الوطنيين الخلص، وفئة باغية إنحازت لجانب التمرد وراهنت عليه ووقفت تبرّر جرائمه، بل وعملت على تجريم الجيش الوطني وحرّضت عليه بوصف يؤكد البون الشاسع بينهم ومفهوم الوطن والجيش الوطني، وفئة ( *المرجأة* ) المتذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، الذين لم يعرفوا الحق ولا الباطل، فظلّوا في محطات الإنتظار لمن تكون الغلبة ولمن تصير الأمور.
تقريبًا لا يتجاوز التصنيف هذه السرادق الثلاث، وبالقياس إلى تصريحات وزير الخارجية بإنعقاد الحوار الوطني فور تحرير العاصمة الخرطوم، مع إستثناء ( *الدعم السريع* )
ولعلّ الحديث السابق لأوانه يفقد كثيرًا من مقوّماته، خاصةً في بيئة متسارعة التغييرات والتقلّبات ( *بيئة الحرب* ) ومقدار الحساسية المفرطة وشدّ وإنتباه الشعور الوطني وحضور مشاهد وأوجاع الحرب، وتجريم من تسبّب فيها ومن أعان عليها بأي درجة ولو بإماءةٍ من رأسه، ومن آثر الصمت والسكوت ( *والسكوت رضا* ) كلها فواتير خيانة واجبة السداد ( *قصاصًا* ) وليس من السهل أن يرى الشعب الخارج لتوّه من المعركة، وعليه من ثلم القتال وجراحات الشعور، عاليه غبار المعارك، وآثار الخروج من بين الأنقاض والخرائب، لا أظنه يحتمل مثل هذا الترف الحواري الذي يتيح لمن ولغ في الدماء وتدثّر بالحياد وضَنّ على الوطن بكلمة تواسيه يدخرها له ويكافئه عليها في يومٍ ما.
نعم لا ينكر أحد أنهم جميعًا ( *سودانيون* ) ولا بُد أن يأتي اليوم الذي تنعقد فيه جلسات الحوار، ولكن ليس الآن، إذ لا بُد من تسوية القضية الأمنية وإزالة المهددات العسكرية، ومعالجة الحاجات المُلحّة في إعادة الإستقرار النسبي، وتقديم الخدمات مما يلي الدولة في حدها المتيسر المقبول، وحتى يفيق الوعي الوطني المصدوم ويتخلّص من كافة المؤثرات النفسية التي تراكمت على أم رأسه، ولذلك الأجدى والأكثر عملية هو أن تتولى المؤسسة العسكرية الحكم ( *بالتفويض الشعبي* ) لمدة قصيرة الأجل في حدود خمس سنوات تُعيد فيها بناء مؤسسات الدولة والحُكم، بأيدي أمينة على ( *الدين و الوطن* ) وهما القضيتان محل الإختصام وسبب الحرب، ولن ينصلح حال الوطن ما لم تترسخ هاتان القيمتان، والشاهد على ذلك ما فعله ( *القحاطة* ) أول ما أقدموا على الدين، فسبوه وحاولوا نزعه من حياة الناس نزعًا بالقانون والإجراءات التعسفية، ثم باعوا الوطن رخيصًا لمجلس الأمن واستجلبوا مندوبًا ساميًا ليكون فوق سلطة الرئيس، وانبنت على هذه الخلخلة مسبّبات عرضية أخرى قادت إلى هذا الدمار غير المسبوق.
المؤسسة العسرية كانت وما تزال محل ثقة الشعب، خاصةً بعد بلائها الحسن في صد الغزو الجنجويدي وإفشال المخطط ( *الصهيوإمارتي* ) وأدواتهم من الأحزاب والشخصيات والكيانات السودانية ( *إسمًا* )، وما يزال مفقود الثقة فيهم، فهم ضعفاء حتى بالقياس العلمي المجرّد ليحكموا دولة، لأنهم غرباء بعيدون عن نبض الشعب ووجدانه، هائمون في تصورات شاذة عن السوية، موصولون بالقوى الخارجية ذات المقاصد الخبيثة والأطماع في السودان أرضًا، وشعبًا، ودينًا، وثقافة، وحضارة،
والأمر الذي يقدح في أهليتهم في العودة إلى ذات الوضع ما قبل الحرب.
خلال هذه الفترة تقوم المؤسسة العسكرية بتشكيل حكومة وطنية من رجال ونساء خلص لا حزبيين، يُشرف عليهم ويسودهم رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة ويتم تشكيل المؤسسات العدلية والمفوضيات المتخصصة، ويجري إعداد الوطن وتهيئة المواطن لمرحلة الإنتخابات حتى يمارس الشعب السوداني وليس المتشدقين بإسمه، السارقين لختمه، المزورين لتوقيعه، يمارس حقه في إختيار من يحكمه، وعندها سيكافئ بلا شك الذين حموه، وزادوا عن حماه، وبذلوا أنفسهم في سبيل الذود والدفاع عنه، سيرفعهم إلى مقامات القيادة، وبالتأكيد سيجازي الخونة والمتواطئين بما يستحقونه من إلقاء في مزابل التاريخ السياسي السوداني.
لعلّه من المنصف أن يقوم الشعب بهذا الدور، وهو تحديد أطراف الحوار السوداني ،، السوداني، وليس أحدًا سواه، حتى لا يخلط الماء العذب الفرات، بالماء الملح الأجاج.
الحوار قيمة لكن الخيانة لوّثت معناه .
الله غالب.