راي

كرتونة آبريه

✍️ لـواء رُكن (م) د. يـونس محمود محمد

 

من وراء دوران الأفلاك يُطل وجه الشهر الكريم محفودًا بين أقرانه من الشهور، متلبسًا أنوار البهاء، رافلاً في حُلل الجمال ، تمشي العظمةُ بين يديه، ملأه الخالق القديرُ مجدًا بتنزيل القرآن بين طيّات لياليه المُعطّرة بأريج الخلود ، وإدخر في عمره المعدود الأيام كنزًا من خزائن الرحمة ( *ليلة واحدة* ) هي ليلة القدر تساوي عبادة ألف شهر، بل هي عمرُ عابدٍ يُضاف إلى عمر الصائم، لو تكرّر مرتين أو ثلاثة في العُمر يكون الصائم من الفائزين.
ولكل شعب من شعوب الأمة الاسلامية طقوس ومشاهد إحتفالية خاصّة تُعبّر عن الحفاوة بمَقدمِه، والترحيب به، والإستعداد لهُ بما يليق وإبداء الرضاء التام، الأمر الذي يحفّز الأجيال على الإستمرار على النهج والمحافظة على الإرث، والحمد لله لنا في السودان نصيبٌ وافر، وسهم صائب في إستقبال الشهر الكريم رمضان من حيثُ تزيين المساجد وتجهيزها بما يليق بإقامة الصلوات الجامعة، التكافل الإجتماعي والإنفاق الواسع على مستوى المؤسسات والأفراد، وزفّة رمضان، والمسحّراتي، وتجهيز محلّات الإفطارات الجماعية في الأحياء وجماعات السكن، ويزيد أهل القرى خاصة ( *الجزيرة* ) يزيدون قطع الطريق على العابرين، فيستوقفوهم حتى يُطعموا في مشاهد تفيض بالمرؤة والكرم، أهل الجزيرة الذين إستهدفهم الجنجويد وقتلوهم وبالغوا في إذلالهم وأخرجوهم من ديارهم العامرة، وإرتكبوا في حقهم المجازر دون أسبابٍ ظاهرة تبرّر كُل هذا الحقد وهذه العدوانية، فكافئوهم بأسوأ ما يُكافأ به مُحسن من جاحدٍ حسود.
أما ( *الآبريه* ) فتلك حكاية شعبية نودُّ لو أن أخانا الخبير في الشأن الإجتماعي ( *البزعي* ) وثّق ذلك في برامجه الرائعة، الثرّة المدرار؛ لأنها كما تقول الدعاية ( *معمولة بحُب* ) نعم هي كذلك، وكلّنا قد عاصر وشاهد عبر ( *أمه* ) كيف يعبّر الآبريه عن ثقافة مجتمعية، وتعاون لطيف، وبِر وأُنس، ومُتعة بالليم، وتبادل الخواطر، حيثُ تعلن روائحة الأخّاذة عن ( *رمضان* ) وتحشد الإهتمام به، وتحضُّ على الإستعداد له، وتنبّه من نسى قضاءًا، أو تجهيز نفقة، أو وصل قريب، أو إستحضار ضيوف، أو تخصيص أيام لزيارة أخ وحبيب.
عند إنتهاء ( *العواسة* ) تبدأ مرحلة تجهيز ( *الطرود والكراتين* ) لإرسالها للأحبّاء، الأبناء البعيدين، البنات المتزوجات المغتربات، الأصدقاء والصديقات، تحملُ هذه الطرود في طيّاتها كل ذلك الجهد الجميل، والنوايا الطيّبة، والذكريات الحلوة، وبصمات كل الأيدي والأصابع التي شاركت في هذه الصِنعة السودانية الخالصة وإن تعدّت عليها الشركات الصينية ( *ربّك يستر* ).
في ذات مرة وأنا قادمٌ من مدرسة ضبّاط الصف في جبيت في العام ١٩٨٣م حيثُ كنت أعمل معلمًا جئتُ إلى سكن ضبّاط سلاح النقل ( *الميز* ) فوجدتُ ( *كرتونة آبريه* ) مكتوبٌ عليها : ”إلى أخي الملازم يونس محمود“
أخوك الملازم المقبول أحمد المقبول، والمقبول رحمةُ الله عليه في الخالدين، رجلٌ سهل، مترع بالروعة والكرم والبشاشة، متخصّص في خدمة إخوانه، ينبههم وقت السحور، ويطوف عليهم يسقيهم بيده، حتى إنّ بعضهم ينسى أنه شرب، فيلوم المقبول : ”إنت أمبارح ما سقيتني“ فيقول له : ”إنت بالذات شربت كوزين “ ( *يا حليله والله* )
المقبول الدفعة ٣٠ أهله من أم روابة، حيّاها الله، وحيّا أهلها الذين قهروا الجنجويد بسواعدهم الخضراء، وأصلهم النقيّ، فكان ميلاد قصيدة كرتونة الآبريه.

كرتونتك لقيتا
لقيت الفيها ،،
فوق الميز ،،
ودون الميز أفوز بيها ،

سرحت بعيد
أفكر في معانيها ،

وما أجمل معانيها!

لو كانت أم روابة دي بتسمع
كُنت بدور أقول ليها :

شِربنا رِوينا من إيديك
بدور أشكُر بواديها ،،

وضروةَ عيش مع النَسّام
ضُقنا حَلاها من طبق البِضَرّيها ،،

ومُرْحَاكةً تَكِسْر الحَب
على أنغام مُغنّيها ،،

وخُمارةً تفور بالليل
شوق ضَهبان وعادْ ليها ،،

يعد نجماتها في حدق البريدا شدييييد ،
تدور الموت، يموت ليها ،،

وللفازعين مع الضُهريّة لي حَطَباً ،،
زي سُخلان تَجرِ قِدام رواعيها ،،

ولما إتلملمن جارات
وفيهن ”أسماء“ ضجّ البيت
وما أجمل حَكاويها ،،

وكان الدوكة حارة شديييد
ترمي عجينة تشويها ،،

جميل الأُنس في ربوعكم
وعامرة خلاص نواديها ،،

وجالت فكرة بالخاطر
لأغلى الناس ،، تودّيها ،،
لي ولدي
معاها الشوق
يكون الحُب حواشيها ،،

وياااا آبريه ، وصيتي كمان:
تكوني طويعمة زي ”زنوبة“ لمّا الحاج يناديها ،،

وعطشة شوقه لما تغيب شمس رمضان
بترويها ،،

وجرحة خاطرُه في الغربة
بي معناك تداويها ،،

وليدك ( يُمة ) ما ضَهبان
وليدك بعشق التَحنان
ولي أخوانه بهديها ،،

ونحن كمان فتحنا الباب
وكل الجيش شِرب فيها

رحم الله الرائد المقبول أحمد المقبول، فقد كان شاهدًا من شواهد الشهر الكريم في ميزات الضبّاط، في ذلك الزمن الجميل .

اذكرونا كل ما شربتم آبريه
وأشركونا في دعائكم

رمـضان كريم 🌙

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى