راي

شَهادة ،، الشُهداء

لـواء رُكن ( م ) د. يونس محمود محمد

 

 

أسهب العلماء الأجلاء في وصف أحوال الشُهداء، وكرامتهم عند الله تعالى الذي قال : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } (آل عمران: 169)

وقال تعالى : { وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَٰتٌۢ بَلْ أَحْيَآءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ }  (البقرة:154)
ولكُل عبادة من العبادات ( *حكمة* ) وغاية قد يفهمها العباد جزئيًا أو يجهلونها، ولكن تبقى العبادة فريضة على عباد الله المؤمنين به سبحانه وتعالى، المُسّلِمين أمرهم إليه، ولذلك عظُمت قيمة الفداء عند الله سبحانه وتعالى، فأجزل الأجر وعظّم الثواب لمن يُقاتل في سبيله، ويدفعُ غوائل العدوان على الدين والأوطان وما يلي الإنسان المؤمن من عرضٍ، ومال، وكرامة، ويمتد الأجر والثواب للإنفاق في سبيل الله ونفرة الجهاد، وتجهيز الغزاة، وخلافتهم في أهلهم بخير، ويعم الخير ويتسع ليشمل كل من عمل عملاً ( *بلا إستثناء* ) يساعد بأي درجة، ويدعم بأي مقدار، إستقرار الوطن المعني بالحرب والمقصود بالإستهداف، كلٌ في مجاله، الزراعة، الصناعة، الخدمات المختلفة، ما توافرت النيّة، وتحدّد المقصد وهو إفشال المؤامرة وردّ الكيد ولكن يبقى المجاهدون أفضل درجات ( *وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا* ).
فالمجاهد الذي يستلّ نفسه من مخاوفها، ويقفز فوق حاجز كراهية الموت ( *كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ* ) وفك إساره من لزوجة الطين، ورغبة العيش والحياة، وما فيها من أسباب الزينة والإغراء، كلّها صراعات تحتدم داخل النفس الإنسانية، فينتصر المجاهدُ عليها، فيطويها ويذرها خلف ظهره لينطلق خفيفًا من أثقالها، هذا الإنتصار الذاتيّ وحده يستحق المكافأة، ثم يُصيب المجاهدين إبتلاء المواجهة مع العدو ( *فيَقتُلون ويُقتَلون* ) فتزداد أرصدة الأجر، ودرجات السمو، فيُغفر للشهيد مع أول دفقة من دمه، ويشهد موقعة من الجنّة، ويُزوّج بسبعين من الحور العين، ويُشفّع في سبعين من أهله، وتكون أرواح الشهداء في حواصل طيرٍ خُضرٍ في قناديل مُعلقةٍ تحت عرش الرحمن، نعم هذه الكرامات، حدّث عنها الصادق المصدوق ﷺ.
ولعلّ الحكمة من هذا التكريم للشهيد من عند الله تعالى واضحة بيّنة في قيمة ( *الدفاع عن الوطن* ) وبالقياس على ما يجري في السودان من حربٍ وُجودية، أوشكت بحسب مخطّطيها أن تُطيح بالوطن بكليّاته الخمس: ( *الدين* ، *النفس* ، *العقل* ، *المال* و *النسل* ).
ولكن وقفة الجيش وكُل من معه في وجه هذا العدوان، هي التي أفشلت المؤامرة، وأبطلت مفعولها، وحوّلتها إلى أهداف أخرى أقل خطرًا، وهنا لا بُدّ من ( *قرح الحرب* ) الذي أصاب جسد الوطن، إذ استشهد آلاف الرجال في ميادين المواجهة، في صمود أسطوريّ وثبات لا يتزحزح، فتقدّم صفوف الشهداء خيرة القادة والضبّاط العظام، والشباب الخُلّص، وإمتزجت دماء القوّات المسلّحة بدماء القوّات المُشتركة، وزُمر المستنفرين، والقوّات المُساندة، فلم يصدّها إستشهاد، ولم تخذلها إصابة، ولم يردعها فقدٌ وأسر، ولكنّها مسيرة متدفقة كعيون الماء من البحيرات العُظمى في أفريقيا التي ينحدر منها النيل، مسيرة قاصدة بإذن الله إلى أهدافها العلوية، ومراميها السامية، وهي تعلم يقينًا أنه لا بُدّ من دفع مهر الحرية، وإستقلال الإرادة، وردّ المظالم ومغالبة الباطل، هذا الثمن بالتأكيد سيكون ممن يحبه الناس { ولَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون }
ويبقى الشُهداء هم الأحبّ إلينا ، معشر الناس، فما تزالُ طائفة الأحزان تحطُّ بين ضلوعنا فتحرقها بجمرِ الفقدِ وتظلّلنا بأجواء الوحشة، وطعم اليُتم القاسي، ومذاق الفراق المُر، تعتصرنا الآلام كلما ذاع نبأ شهيد ترجّل، وفارس طواه التراب، وعاد حصانه و ( *سرجه مقلوب* ) إذ توحّد الإحساس الوطنيّ، وتحقّقت فيه أمثولة ( *الجسد الواحد* ) في الحديث الشريف، فكُل شهيدٍ هو فقدنا، وكل فارس مقدام هو عزّنا، وكل بُشارات النصر تُفرحنا، وكل إبتلاء يحل نقتسم تنزلاته بالصبر والإحتساب.
هناك ( *شهادة* ) وقعها أشدُّ على الناس كما حدث لرسول اللهﷺ عندما استشهد ( *سيد الشهداء* ) حمزة بن عبد المُطلب، فغمره الحُزن واعتمله الغضب وتوعّد بالقصاص، غير أن الوحيّ، سلاه وعزّاه، وحدّد له صيغة القصاص : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ }
إن ما أصابَ أهل السودان من ( *حُزن* ) على فقد شُهداء الطائرتين الأولى في سماء نيالا المغتصبة ، الدامية الجسد ، الدامعة العيون ، التي تنتظر فك أسرها وتحريرها من الجنجويد المجرمين ، حيث ارتقى شهيدا اللوا طيار ، ابو القاسم على جمعة ، ومساعده ، وهم في مهمة جوية مقدسة ، كتب الله لهم فيها الاصطفاء والشهادة ، والطائر الأخرى ، في أم درمان حيثُ استشهد طاقم الطائرة، ورفقة من معهم واستشهد مواطنون ممن قدّر الله أن تسقط الطائرة فوق بيوتهم، ويستشهد اللواء الركن بحر أحمد بحر ضمن هذه الكوكبة المُختارة بقدر الله، وآجاله المسطورة، فقد كان وقع شهادته صعبًا على أهل السودان؛ لما للرجل من مواقف مشرّفة، وأعمال عظيمة، قبل الحرب وأثناءها، حيثُ تم تكليفه بالإشراف على عمليات منطقة بحري، ووقتها كانت موبؤة بالجنجويد إلا من الوحدات العسكريّة وقد وفّقه الله أن يتمدّد بالقوات تدريجيًا حتى قَلبَ المعادلة على الجنجويد، بل وأخرجهم من كل محلية بحري تمامًا وكأنّه كان على موعد مع الخلود بإذن ربه، فغادر الدنيا بطلاً شهيدًا، مقدامًا بذل كل وسعه لإفتداء وطنه ، هو وسائر إخوته الشُهداء.

نسأل الله لهم القبول، وأن يعجّل بالنصر على هؤلاء المجرمين.

إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.

والله أكبر والعزة للسودان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى