
حتى إذا إستيأس الرُسل ، ظنّاً منهم بتكذيب رسالاتهم، وأصابهم الغم، وغشيتهم الحيرة والضيق، جاءهم نصرُ الله بلا مقدمات، كما ينبلج الضياء في لُجج الظلمات، فتتجلّى كأنها لم تكُن ذات سدول كثيفات غلاظ، ما يكادُ المرء يرى يده إذ يخرها أمامه، وكذلك أحوال أتباع الرسل، تتنزل عليهم الإبتلاءات للتمحيص، ليصطفى الله تعالى على بينةٍ منهم وشاهد عليهم، هو نتيجة ورقة إختبار الصبر والإحتساب، ثم تهب الرياح اللواقح، فتهبُ الأرضين ظلاً وغيماً وسقاءًا، وتخضّر الحياة وتُزهر الأرض، وتبلى عباءة الأحزان، وتكتسي بعدها اثواب العوافي القشيبة.
نعم فالحبيبُ المصطفى العائد لتوه من صُلح الحديبية في محرّم من العام السابع للهجرة، والمحاصر لحصن خيبر لأكثر من إسبوعين بسبب إخلاف ( *يهود* ) العهد ونقضهم الميثاق ( *كما هو دأبهم* )، فتح الله عليهم الحصن، وهم في غمرةِ فرحهم جاء ( *جعفر بن أبي طالب* ) من مهجره في بلاد الحبشة إلى المدينة المنورة، فقبّله صلى الله عليه وسلم بين عينيه وقال مقالته الخالدة ( *لستُ أدري أنا بأيهما أسر*، *بفتح خيبر*، *أم بقدوم جعفر* ) ونحنُ كذلك يا سيدي يا رسول الله، نتقلّب هذه الأيام في نعمٍ سابغة، لا تُحصى ولا تُعدْ، هلّت علينا بشائر النصر، ومواسم الأفراح، بعدما ( *شبعنا وجيعة* ) من أراذل الناس، أقبحهم منظراً، وأخبثهم مخبراً، لا يتورعون من إغتراف كل جريرة، وليس لديهم وازع من دين، ولا عاصم من مكارم، ولا حظ من حس، ولا نصيب من أخلاق، ساموا الناس سوء العذاب، قتلوهم وذبّحوا أبناءهم، وأستحيوا نساءهم، وزادوا عليه تبجحاً ومجاهرة.
إنتشروا كالجراد في الحقول، كالوباء في الحياة، زرعوا الخوف، نشروا الذعر، فر الناس من أمامهم إتقاء بطشهم، لجأ الناسُ إلى حيثٌ تواجد ( *القوات المسلحة* ) لائذين، ملتمسين الأمان، ومن خلال المتاح من الرصد والأخبار ( *وتلقفها* ) ظنّ الناس أن أمر هؤلاء الجنجويد سيطول، وجرى الحديثُ عن إستيطان عربان الشتات في بيوتهم، وسلبهم مزارعهم وأسباب عيشهم، وحرمانهم حقهم وذكرياتهم، ومثوى آبائهم، ولذلك عصف الخوف بإستقرارهم، وانتابتهم الأحزان، وهددهم الحرض، ووقفوا على حواف الهلاك،
وفي هذه اللحظات الحرجة، حيثُ الأبصار زائغة والقلوب في الحناجر، وطغيان الظنون، والتشكيك بالنصر، والطعن في القوات المسلحة، وتخوين قياداتها، وكل الإضطراب الذي يصاحب هذه المواقف، هنا جاء ( *نصر الله والفتح* ) وإنقلبت المعادلات، وأرسل الله تعالى نصره وجنوده إلى معية القوات المسلحة ، ( *ثباتاً* ) وألقى ( *الرعب* ) في قلوب الجنجويد، ففروا كالحُمر المستنفرة، من قسورة الأسود والصائدين، تاركين وراءهم ( *العيب* ) وسوء الذكر، فضلاً عن السلاح والمؤن والعتاد.
وتوالى إقتحام الجيش المدن العزيزة على قلوب أهل السودان ( *عدا القحاطة* ) واحدةً تلو الأخرى، في استزادة فرحٍ لا نهائي، كل ساعة تدخل مدينة ومنطقة وقرية، تدخل إلى الظل تردد ( *رب إني لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقير* ) .
فما شربنا من ماء النيل الأزرق غير الآسن، إلا واتانا كأس الحليب من ضرع الجزيرة سائغاً لم يتغير طعمه، وقبل أن نحطه عن يد، تدور علينا قوارير خمر بلا غول، من لدن ( *أم روابة* ) العائدة لتوها من غياهب الأسر الجنجويدي، على أيدي رجال أوفياء، وهناك مشارب الشفاء والعسل من عرائش البطولة في حصون الدروع ، حيث تجري وقائع نصر ليست أقل مما تحقّق في مدني، وكذلك الأمر في بحري، عودة الجيلي وما جاورها من حواضر الريف الشمالي، أما المصفاة ( *عقدة الحبل* ) فهي الآن على المحك، يحاصرها الليل ولات حين مهرب، تتذبذب ما بين الإستلام والتسليم، وكلاهما مُر الطعم.
هذه النعم الوافرة التي غمستنا فيها رحمة ربنا فأنستنا ما كان من قسوة أيام الجنجويد وسوء طوية وحقد القحاطة.
تتوالى بحول الله أنباء الإنتصارات البهية التي تُذهب عنّا أذاهم، وتشفي الصدور بمشاهد مهلكهم، بأجداثهم المتراكمة النجسة، ومخلّفاتهم التي تُفصح عن محتواهم التافه، وإنحطاطهم إلى درك البهيمية.
وما ندري والله بأي الأخبار السارة، والأنباء والبشريات ( *نُسَر* ) فلله الحمد والمنة.
وللجيش التقدير والثناء.
ولكل مناصر، وساند، القبول عند الله وحُسن الجزاء.
*واليوم عيدك يا وطن*.