
كلما اشتدت وطأةُ المخمصة على الجوف، وجفَّ الحلق من الظمأ، وأرسل الدماغ إشارات النَّصَب إلى الأعضاء، وتاق الإنسان إلى الخلود للراحة، والإيواء إلى الظل، يبثُّ ضعفه إلى الله رب العالمين، في مشهدٍ رمضانيٍّ يجسِّد التفاعل الداخلي لحالة الصوم، وأثره في النفس الإنسانية من خلال وسائل المنع مما اعتاد عليه الناس في سائر أشهر السنة، عدا هذا الشهر الكريم، الذي اقتضت حكمة الخالق أن يُجَمِّر النفوس بما تجده من حرارة الامتناع، وما تقاسيه من عملية إزالة أثر الأوشاب من الروح، وتخليصها مما علق بها من أدران طوال مسيرة العام، تمامًا كما تُغسل الأثواب، وتُجلى الأواني، وتُنظَّف الأماكن، ليشفَّ حاجز الروح، ويتمكن من النظر، ثم الإبصار بعيدًا، لإدراك حقائق الكون والخلق، ويتجدد فيه الإحساس بماهيته الآدمية، ويتفحص عُرى الروابط بينه وبين الخالق سبحانه وتعالى، ويتأهل ليكون في زمرة المختارين، الموعودين بالمغفرة، والتجاوز عن المخالفات، والتخفف من تبعاتها، حتى يستطيع الانطلاق في درب العبودية لله تعالى وهو خفيف الظهر، بلا أثقال، يحث الخطى نشوان بهذا النقاء والتطهر الذي حازه في شهر الصوم، رمضان.
إن وحدة الشعور لدى الأمة في هذا الشهر تلفت الانتباه أكثر، رغم وجود عبادات أخرى مشتركة ومتكررة كالصلاة، وذلك ربما لأن الاعتياد والرتابة يحدان من الشعور العميق ويغطيان على الانتباه لكثير من الحِكم المصاحبة للعبادات. ولكن حين يأتي رمضان بشروطه المؤثرة مباشرة في يوميات الحياة، وملامسته لاعتيادات الناس في شأن الشهوات المقيمة للحياة ( *الأكل والشرب والجماع* )، ثم السمو عنها والامتناع، فإن ذلك يُجدد الإنتباه، ويقرع بصوت عالٍ دواخل النفس البشرية، حتى تنتبه لما كانت تجهله أو تتجاهله، بينما تتمادى في الإستغراق في مُتع الحياة ولذائذ العيش، بعيدًا عن قيود محددة أو أوامر مانعة. وهذا ما يفعله الصوم، خاصة إذا كان فريضةً واجبة الأداء، لها من الجوائز والمحفزات ما يُعين على الصعاب ويُستعذب لأجلها الإمتناع، وفيها من الوعيد وسوء العواقب والعذاب ما يردع عن التهاون، ويقفل طريق الرجوع، لأن تعمد كسر الصوم كبيرةٌ لا جبر لها إلا بالتوبة النصوح.
من آثار رحمة الله على العباد، أن جعل العبادات جماعية، مما يعين على المضي والإكمال بروح الجماعة، والتعاضد، والتقليد، واقتسام وتشارك المعاناة. فانتظام صفوف الصلاة يجعل المصلي يشعر بأنه لبنة في هذا البناء، ووصلة في هذا الاصطفاف، في تراتبية الركوع والسجود السرمدية عبر الأجيال، كتماثل الطبيعة بمفرداتها حتى تصبح مشهدًا متكاملاً. فالجِبال المترائية بقممها الشامخة، ما هي إلا حجارة تراصَّت فوق بعضها وتلاصقت أجزاؤها، والغابة الخضراء الممتدة ما هي إلا أشجار تجاورت منابتها، وتماثلت أحياؤها، فصارت غابةً في تسمية الأشياء. ومن هنا تجلت حكمة الجماعية لتعطي العبادة شكلها، وأثرها في النفس الواحدة، وفي أنفس المجتمع المتعددة، ولتعلن الشكل المراد للمجتمع المسلم (*مظهرًا* )، ثم تتنزل روح العبادة ( *مخبرًا* ) على مجمل السلوك، وطهارة الكسب، وجودة الصنعة، وإخلاص الأداء، باستحضار قيم التدين، بصورة لا يختزلها مخالف، ولا يشوش عليها ارتياب، لأن التفاوت سمة ملازمة لكسب الإنسان، بين ظالمٍ لنفسه، ومقتصدٍ، وسابقٍ بالخيرات. وهذه تصنيفات مجزية، وأحكام منصفة، وموازين قسط، تقرأ ( *ملفات* ) العمل بدقة وحياد.
كل هذه البيِّنات من الأمر ( *أمر العبادة، هنا* )
تضع العواقب والمآلات بين يدي صاحبها، ليرسم مستقبله في الحياة الآخرة، من خلال الأداء المنضبط للعبادات، والسعي في استكمالها بالحواشي والنوافل، وتزيينها بما يليق، كأنها إهداءٌ ثمين، بدل أن تُعرض هكذا مجردةً من الزينة والاعتبار. ووقتها، سيعرف كل امرئٍ مقامه، وهو يتسلم صحائفه، إذ يؤكد مشهد التسليم وطريقته النتيجة المسبقة حتى قبل الاطلاع على ما سُطِّر فيها، فبمجرد تيامن الاستلام ( *فمن أوتي كتابه بيمينه*)،
فهي شارة النجاة والخلاص من المبتدأ. وأما من أوتي كتابه ( *بشماله أو من وراء ظهره* )، فهي علامات الشقاء الأبدي المؤكدة، وساعة الندب والندم المتأخرة، غير المنتجة.
ولذلك يقوم العلماء والدعاة، وهم ( *ورثة الأنبياء* )، بوظيفة التذكير، والحث بأمر الله، وإرشاد العباد، وإعانتهم على الاستقامة على الجادة، حتى لا تزيغ بهم الأهواء، فيضلوا الطريق، ويخسروا آخرتهم، ( *وذلك هو الخسران المبين)، الذي لا يمكن تعويضه، وكسرٌ لا يُجبر أبدًا، إذ لا شفاعة، ولا فدية، ولا عدل ( *مقابل* )، ولا من يجادل عنك، ويلتمس لك العذر، ويبرر أفعالك. لا شيء من ذلك البتة.
غفر الله لنا سالف تقصيرنا في حقه تعالى، وفي حق الناس، وفي حق أنفسنا التي بين جوانحنا. وألزمنا كلمة (التقوى)، وهي ناصية الاستقامة على الحق والهداية، ووفقنا للثبات، وعصمنا من التقلبات التي تجتاح الأعمال فتذرها كالرماد في يومٍ عاصف. والثبات من أمهات الدعاء النبوي الخالد: ” *اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد* .”
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.