
أعجبُ للذين يكاسرون الجيش ( *القحف* ) وهو الماعون المصنوع من القرع ( *البخسة* ) بمعنى الآية الذين هم يراءون ويمنعون الماعون، بخلاً وقطعاً للأواصر وإمعانا في الجفاء، والأعجب منه أنَّ الجيش لا يقفُ عند هذا الجحود وتلك العداوة والمقت، ولا يلتفت لهذا التخذيل وتلك الوشاية، إنما يمضي في بسط أجنحته عليهم يظلّلهم من لظى الحرب التي تحرق جلده، ويحملهم على ظهره الذي غرزوا المخيط تحت سرجه حتى يؤذوه كلّما تقدم في سعيه حتى تنهار قواه تحت وطأة الألم والنزيف.
نعم الجيش الذي نسجوا أكفانه وحفروا قبره، وأعدوا من يخلفه في أهله ( *أهل السودان عدا القحاطة* ) ومارسوا الخداع في أعقد صوره، والتمويه في أخبث حيله، فلوّحوا بأعلام التفاوض وهم قد عقدوا أمرهم تماماً على عملية الإحلال والإبدال، لتستلم المليشيا الوطن، وتتناسل منها قوى الأمن والشرطة، وتبسط سيطرتها بالقوة الباطشة، وتصفّي كل الخصوم الحاليين والمحتملين.
ولما أعلن دوي الرصاص حتمية المواجهة، أشفق كل السودان على جيشه لعدة أسباب منها: عمليات الإضعاف والإستنزاف لقدارت الجيش في فترة قحط السوداء، بتجريده من أسباب القوة الإقتصادية بمصادرة شركاته العاملة، وتوالي كشوفات الإحالة للمعاش لنخب ضباطه، وحرمانه من أي تعويض بالتجنيد، والتدريب بوقف المخصصات المالية لمقابلة ذلك، فضلاً عن الإستهداف والتشهير الإعلامي، وتحريض السفهاء بالتجاسر عليه بوقاحةٍ غير مسبوقة، وتقييد صلاحياته في ملاحقة هذه التجاوزات.
ومن أسباب الإشفاق أن الناس يرون بأعينهم كيف يتم تتريس ( *الجنجويد* ) بالسلاح النوعي، ومظهرهم المستفز لتاريخ الجيش السوداني، وهم يضعون قوةً وإرتكازاً مقابل كل معسكر للجيش، ولم تنجُ من ذلك حتى القيادة العامة، ومنزل الضيافة ( *مقر الرئيس* ).
ومن أسباب الإشفاق أنَّ أمان الناس قد أصبح في مهب الريح، وحافة الهاوية، فصدقت بعض الهواجس، وبدد الجيش أخطرها، والقصة معلومة ( *قصة المواجهة الأولى لقتل أو إعتقال الرئيس* ) وما رواه الشهود، ووثّقه الرواة، عن صمودٍ غير متوقّع لفئةٍ قليلة، على غير تمام الإستعداد، وبدون معلومات، أمام جحفل ورتل من الآليات العسكرية، والنوايا السيئة، وطوية الغدر، وخبث التآمر، حيث أفشل طاقم الحراسة الهدف المفتاحي من كل التخطيط، وكأنه قادَ إلى فشل كافة المراحل التابعة، وهذا من لُطف الله بهذا الوطن.
ثم توالت بطولات مُبهرة من وحدات القوات المسلحة، وإستماتة فدائية من كل المواقع، صبرت أمام وابلٍ من الرصاص، وقواذف الدانات، والراجمات، التي تصب الجحيم سائر ساعات اليوم، ولم يفل ذلك عزم الجيش الذي تجذّر في الأرض عميقاً كالجبال الرواسي، لم يتزحزح حتى فتر الرصاص، وتكسرت قرون ( *أشاوذ أم قرون* ) وهلكوا وتساقطوا حتى جاءت كتائب المستنفرين من أبناء الشعب تشد من عضد جيشها وتؤازره، فكانت النصرة، وتفسحت الوحدات والمواقع في مساحات التأمين إلى أن بلغت مرحلة الملاحقة للجنجويد، والمطارة للمتعاونين.
الجيش السوداني أمره عجيب؛ لأنه لم يكن في تصور محلل عسكري، أو متخصص إستراتيجي ، أو صاحب خبرة في التوقعات العسكرية، أن يفعل الجيش السوداني ما فعله في الجنجويد، وللمتشكك أن يراجع فيديوهات تجمعات الجنجويد في الإستعراضات والأعياد والتحركات، لينظر بأم عينه كثرة ماعندهم من عتاد، ولكن الحروب ليست عتاداً كنا هو معلوم، فقد غادرت القوات الأمريكية أفغانستان بعد عشرين سنة، بأكثر من خمسين ألف جندي، مخلفةً وراءها أكثر من تسعين ألف قطعة عسكرية، وعلى ذلك كان القياس والمقارنة حيث تجلّت صفات الجندي السوداني ( *ود الحلال* ) الوطني، الغيور على الدين والأرض والشعب والقيم والأخلاق، صاحب التدريب العالي، والإنضباط الذاتي، والقيادة الواعية، المؤهلة بالعلم والدربة والسلوك، المدركة للحقوق والواجبات، العارفة بالقوانين، إذ تشهد الوقائع مع قسوتها، والقتال مع إستثنائيته تشهد لأخلاق الجيش وما يتحلى به منتسبوه كلهم، في إحسان القتل إذا قتلوا في الميدان، وفي معاملة الأسرى في أيديهم، والمشاهد تحكي مداواتهم للجرحى الذين خلفهم الأشاوذ بعد هروبهم، وبالتأكيد حفاظهم على مواطنيهم وممتلكاتهم.
والناظر لفرحة المواطنين كلّما هل عليهم هلال الجيش، وتداعيهم في تظاهرات الفرح الغامر، وهذا ما يحدث الآن في محاور الجزيرة، والطريق إلى مدني سالكة، والناس يساهرون وهم يتداولون الأخبار، ويستغرقون في الدعاء والتفاعل مع كل خطوة يتقدمها الجيش.
الجيش الذي يستحق التغزل فيه، والتغنّي بمكرماته، والإحتفاء ببطولاته، والزهو بالإنتماء إليه، والفخر بأنه جيشنا نحنُ أهل السودان.
أدام الله عز الجيش السوداني، وعز قياداته من الأقدم وإلى أحدث جندي .
وعز كل من سانده، وسعى معه، ودعمه، ودعا له.
والخزي واللعن والخسران لكل جنجويدي، وقحاطي خائن.
وغداً نفرحُ بعودة مدني بحول الله.
*وما النصرُ إلا من عند الله* .